الاثنين، 30 يناير 2012

"حــوار مـع صـــديق مـن الفلـــــول"


أحد أصدقائى المقربين لم أقابله منذ فترة طويلة ؛ منذ عام تقريبا ؛ أى منذ اندلاع أحداث الثورة ؛ ومؤخرا إلتقيت به ؛ وكم كنت متشوقا لسماع رؤيته للأحداث التى مرت على مصر خلال هذا العام العصيب والملئ بالأحداث ؛ وبالفعل بدأت أتجاذب معه أطراف الحديث حول الشأن السياسى من اللحظة الأولى من لقائى به ؛ وبدأ حديثنا يأخذ منحنى متصاعد بعد تبادل التحيات والترحيب و الحديث عن الأشواق وكل هذا الكلام التقليدى ؛ وبمرور الوقت بدأت تتضح لى رؤيته العامة للأوضاع ؛ وسرعان ما بدأت أشعر بالضيق مما أسمعه منه ؛ و وجدت نفسى أسرح فى بعض ذكرياتنا و مواقفنا معا منذ أيام الطفولة حتى الشباب ؛ لقد كان لنا نقاشات طويلة فالسابق حول الأوضاع السياسية فى تلك المرحلة وحول التحليل السياسى للتاريخ المصرى الحديث ؛ وكنا فالغالب مختلفين فالرأى ؛ وكان بعد كل نقاش من تلك النقاشات يترسخ لدى حقيقة كان من الصعب على تقبلها لما بينى وبين صديقى من مودة وعلاقة شخصية دافئة ؛ لكن قواعد العقل والمنطق (التى تعلمتها خارج مناهج وزارة التربية والتعليم) كانت تقودنى رغما عنى لتلك الحقيقة ؛ والتى هى أن أسلوب صديقى فالتعاطى مع السياسة ومع كل ما يخص الشأن العام هو مثال صارخ للتفكير الرجعى ؛ نفس أسلوب التفكير الذى تسبب فى صمت وخنوع المجتمع - لعهود طويلة - على الظلم والانحطاط الذى وصلنا إليه ؛ نفس الأسلوب الذى روج كثيرا للرضا بالواقع المؤسف كما هو بدعوى أنه ليس فالامكان أفضل مما كان ؛ لقد كان صديقى يكرر دائما على مسامعى جمل كئيبة من قبيل "مصر كدا وهاتفضل طول عمرها كدا" وحين كنت أحدثه عن مخطط التوريث كان يرد على ساخرا "وهوا فى مين فمصر يصلح يكون رئيس غير جمال باشا ؟؟؟" وحين يرى امتعاضى من كلامه كان يكرر جملته الأثيرة "يابنى دى بلد وسخة وشعب متخلف ماينفعش يتحكم غير بالكرباج وهاتفضل مصر كدا ليوم الدين" !!! وحين ظهر الدكتور البرادعى على الساحة السياسية فى مصر وبدأنا نشعر ببصيص من الأمل وقررنا جمع التوكيلات له ؛ وكنت فى حينها ممن يدعوا الناس للتوقيع على بيان الجمعية الوطنية للتغيير ؛ لذا فقد طلبت من صديقى التوقيع فكان رده "إنت عبيط يابنى وإللا إيه ؟؟؟ إنت فاكر الكلام دا هايفرق فى حاجة ؟؟؟ أمن الدولة هاينفخ العيال الخـ.... (لفظ بذئ كلكم تعرفوه) بتوع البرادعى دول وبكره تشوف" !!! وفى تلك المرحلة – قبل الثورة – قررت عدم الدخول فى أى نقاش سياسى معه تجنبا لخلاف قد يطيح بصداقتنا ؛ الآن وبعد مرور عام أجلس معه وأجده يكرر على مسامعى كلاما مشابها لما كان يقوله قبل الثورة ؛ لقد تخيلت أن الأحداث الجثام التى وقعت على مدار الأيام والشهور الماضية قد أدت إلى تغيير وجهة نظره ؛ لكن الحقيقة هى أن صديقى مازال رجعيا بإمتياز بل إن رجعيته قد تضاعفت و زادت عليها نظرية المؤامرة التى تصبغ كل كلامه بلون أسود قاتم ؛ فمثلا وجدته يقول "ثورة إيه يابنى !!! انت لسا عايش فالوهم !!! دول كلهم عيال خونة قابضين من أمريكا واسرائيل وأكيد أمن الدولة هايلمهم كلهم" فسألته مباشرة "ألا ترى أن هناك متظاهرين قتلوا ظلما ؟؟؟" ففوجئت به يصيح قائلا "دول ولاد وسـ..... إيه اللى وداهم التحرير أصلا ؟؟؟ وماله مبارك ؟؟؟ دا راجل طيب وطول عمره شايل الهم" فى تلك اللحظة بذلت مجهودا خارقا حتى أحافظ على هدوئى ؛ وعدت لأسأله "وما رأيك فى أداء الأمن ورجال النظام خلال الثورة ؟؟؟" فرد على منفعلا "الناس دى غلطت غلطة كبيرة" فقلت فى نفسى يا فرج الله لينها يا ملين ؛ أخيرا سنتفق فى رأى ؛ لكنى فوجئت به يقول "كان المفروض الشرطة وأمن الدولة يخلصوا على العيال الخـ.... دول من أول يوم ؛ ولو ما عرفوش يخلصوا عليهم كانوا يبعتوا الطيران يكنس العيال دى" وهنا بدأ الدم يغلى فى رأسى وأحسست أننى سأنفجر فى أى لحظة ؛ لكن صديقى لم يلتفت لى واستكمل حديثه قائلا "ولو كانوا عملوا كدا ماكانش حد هايقولهم انتوا بتعملوا إيه عشان معظم المصريين بيحبوا مبارك" فوجدت نفسى أسأله "وأين كان محبى مبارك أثناء الثورة ؟؟؟" فرد على قائلا "كانوا موجدين فبيوتهم طبعا وإللا انت فاكر إنهم كانوا هايعملوا مظاهرات واعتصمات وحوارات خايبة من دى انت مفكرهم قابضين وإللا فاضيين للعب العيال دا ؟؟؟ اوعى تكون مصدق ان ممكن حد ينزل الشارع ويبات عالأرض فالميدان عشان الثورة وإللا عشان بيحب مصر والكلام الفاضى دا ... يابنى دول قابضين" عند هذا الحد لم أستطع أن أرد عليه أو حتى أنظر له ؛ فانتهز فرصة سكوتى و استرسل فى حديثه قائلا "انت شايف البلد بقت عاملة ازاى ؟؟؟ يابنى البلد خربت خلاص ... فعلا ولا يوم من أيامك يامبارك ... وعلى فكرة مبارك هايدخل التاريخ وهايندم الشعب المتخلف دا عليه ... يابنى انت بتأيد الثورة عشان مش فارق معاك حاجة وكدا كدا هاتلاقى أكلك وشربك وكل طلباتك متاحة لكن الناس اللى مش لاقية تاكل واللى بيعيشوا حياتهم يوم بيوم بيوتهم اتخربت خلاص وهايموتوا مالجوع" هنا تذكرت أن صديقى من رواد الجدل البيظنطى الكبار فلو كنت مثلا من المعدمين ممن هم تحت خط الفقر كان سيقول "انت مش فارق معاك حاجة انت كل اللى يهمك انك تلاقى الفول والطعمية و رغيف العيش أبو شلن ودى حاجات مش هاتتغير لكن البرصة والاقتصاد والاستثمارات الأجنبية مش فارقة معاك فحاجة وحتى البلطجية مش هاييجوا جنبك لأنك ماحلتكش حاجة تتسرق أصلا" أما ان كنت مثلا أقيم خارج مصر كان سيقول "ياعم انت عايش برا مصر زى الباشا ومش حاسس باللى بيحصل فالبلد ومصر بالنسبة لك ترنسيت ... وطالما ان فلوسك جاية من برا مش هاتفرق معاك إذا ولع جوا" أما ان كنت غير متزوج وليس عندى أسرة وأطفال أعولهم كان سيقول لى "يا عم انت ماواراكش بيت عاوز مصروف ولا عيل عاوز اللى يربيه ويصرف عليه ولا فى فرقبتك إلتزمات تقيد حركتك عشان كدا انت مستبيع ومش فارق معاك حاجة" أما إن كنت مثلا طالب جامعى كان سيقول لى "يابنى انت مش فارق معاك حاجة عشان انت لسه بتاخد مصروفك من بابا وماما وماتعرفش القرش بييجى ازاى" أما ان كنت مثلا من المنتمين للاخوان أو حتى من المتعاطفين معهم كان سيقول لى "أيوة ياعم ما انت طبعا لازم تأيد الثورة دا انتوا طلعتوا من المعتقلات على مجلس الشعب عدل وهبرتوا الهبرة الكبيرة من الطرطة" أما ان كنت مثلا موظفا فى إحدى قطاعات الحكومة كان سيقول لى "ياعم انت مش خسران حاجة مرتبك قبل الثورة هوا هواه بعد الثورة دا حتى يمكن يكون زاد و كدا كدا متثبت فالشغل بتاعك مش زى الناس الغلابة اللى شغالين فالقطاع الخاص وشركاتهم بتخسر بسبب الثورة بتاعتك وغالبا هايتسرحوا من شغلهم وشركاتهم هاتفلس" وحتى لو كنت كائن فضائى من كوكب المريخ كان صديقى سيجد لى سببا ماديا أو تصنيفا نمطيا يفسر به تأييدى للثورة والثوار ؛ كان سيستخدم كل الأسباب المعروفة - والغير معروفة - إلا سبب واحد كان سيستبعده ويتجاهله تماما ؛ فمن المؤكد أنه ما كان ليقول لى "انت بتأيد الثورة والثوار عشان هوا دا الصح وهوا دا الطريق اللى هايغير البلد" حتما ما كان ليقول ذلك ؛ فصديقى بجانب رجعيته السياسية لديه أيضا جانب من الوجودية (الوجودية بتاعت "سارتر" فاكرينها ؟ أظن انها كانت فى مادة الفلسفة فالثانوى) ؛ فصديقى لا يؤمن إلا بالمادة ويعتبر أن المادة هى المحرك الرئيسى للبشر ؛ بمعنى أنه يستبعد تماما أن يكون لدى أى شخص سبب غير مادى يجعله يؤيد الثورة ؛ كما أنه يسير كثيرا على نهج "خالف تعرف" ... ودائما يستخدم لباقته ومهاراته فالحديث ليجعل محدثه يغير رأيه ويتبنى فالنهاية رؤيته الرجعية الوجودية ......... نظرت لصديقى فى مجلسه فوجدته مازال يتحدث فقاطعته سائلا "ألا ترى أى عيوب فى نظام مبارك ؟؟؟" فرد على سريعا "بصراحة أكبر عيب فى مبارك هوا ان الأخلاق اتدهورت فى عهده" فوجدت نفسى أنفجر ضاحكا رغما عنى ؛ وبعد قليل عدت لأسأله "أتقصد أن التعليم كان سيئا وانعكس ذلك على التربية الأخلاقية ؟؟؟" فرد على قائلا "تعليم إيه ياعم ؟؟؟ الأخلاق مالهاش دعوة بالتعليم والمدارس يابنى الرك عالأب والأم ... انت مفكر لو التعليم والمدارس اتصلحت هاتفرق حاجة مع الشعب الهمجى المتخلف دا ؟؟؟" عند هذا الحد لم أستطع أن أسمع منه أكثر من ذلك ؛ فأسرعت بتغيير اتجاه الحديث بعد أن أمنت على كلامه قائلا "فعلا عندك حق الرك عالأهل" ......

 بعد كل هذا الجدال ترسخت لدى حقيقة لا جدال فيها ؛ فقد تأكدت أن التغيير فالفكر و العقول أصعب بكثـير من تغيير النظام السياسى





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق